النوع الثالث : وديعة الخزائن الحديدية :
صورتها : تقوم بعض المصارف بتأجير خزينة مقابل أجرة معلومة بحيث يستفيد العميل من هذه الخزينة في حفظ نقوده أو أوراقه الثمينة أو غير ذلك ، ويكون لدى العميل مفتاح ولدى المصرف مفتاح آخر .
حكمها : جائزة ولا بأس بها .
التعليل : لأنها إجارة بعوض حيث يقوم المصرف بتأجير هذه الخزائن الحديدية .
القسم الثاني : الودائع المصرفية الاستثمارية :
وهي التي يقصد بها الكسب والتجارة والربح سواء كان ذلك من قبل المصرف أو من قبل العميل .
وهذه الودائع تتنوع إلى أربعة أنواع :
النوع الأول : الودائع الجارية التي تكون تحت الطلب .
صورتها : أن يقوم العميل بإيداع مبالغ نقدية لدى المصرف بقصد أن تكون قابلة للتداول والسحب عند الطلب ، يعني : إذا أراد أن يأخذ هذه الدراهم فإنه يقوم بأخذها في أي وقت شاء .
وهذا ما عليه عمل كثير من الناس اليوم في مثل هذه البلاد أنهم يقومون بإيداع أموالهم ودائع جارية عند الطلب عند هذه المصارف بحيث إن العميل يتمكن من سحب هذه المبالغ في أي وقت شاء .
كيفيتها ( تخريجها ) : اختلف المتأخرون في تخريجها على رأيين :
أ- أنها تعتبر إقراضاًَ من العميل للمصرف ؛ يعني أنك إذا دفعت هذه الودائع إلى المصرف فإنك تكون أقرضت هذا المصرف ، وهذا ما عليه أكثر العلماء الآن .
التعليل :
1- أن العلماء السابقين يقولون : إن المودع إذا أذن للمودَع لديه أن يتصرف في الوديعة فإنها تتحول إلى كونها قرضاً .
المثال : أنت أعطيت زيداً من الناس ألف ريال وأذنت له أن يتصرف فيها ؛ فتصرَّف فيها ببيع أو شراء …إلخ ، فإنها تتحول من كونها وديعة إلى كونها قرضاً .
وهذا ينص عليه العلماء رحمهم الله وهو الجاري الآن ؛ فإنه وإن لم يأذن لفظاً فإنه آذن عُرفاً ، فالعميل يضع دراهمه في المصرف ويأذن له بالتصرف في هذه الدراهم فيقوم المصرف باستغلال هذه الدراهم بالبيع والشراء ، فأصبحت هذه قروض يقرضها العملاء للمصرف .
2- أنه لو تلفت هذه الدراهم فإن المصرف ضامن لها ، وهذا هو القرض .
المثال : لو أعطيت زيداً من الناس ألف ريال قرضاً ثم ضاعت منه أو حفظها في الصندوق وكُسر الصندوق وسُرقت فهو الضامن لها لأنها الآن دخلت في ملكه بخلاف الوديعة فإنك لو أعطيت زيداً من الناس دراهم ليحفظها فحفظها في حرز مثلها في الصندوق ثم جاء سارق فكسر الصندوق وأخذ الدراهم فإن المودع هنا لا يضمن ما دام أنه لم يتعد ولم يفرِّط .
فقالوا : بالاتفاق يقوم المصرف بضمان هذه الدراهم مطلقاً ؛ تعدَّى أو لم يتعدَّ ؛ فرَّط أو لم يفرِّط ، وهذا أخرجها من كونها وديعة في الأصل إلى كونها قرضاً .
3- لو أفلس المصرف فإن العميل يدخل على أنه دائن عادي ولا يدخل على أنه صاحب وديعة ، وهناك فرق إذا قلنا : إنه صاحب وديعة ، أو قلنا : إنه دائن ، فقد قال النَّبيّ r عند قسمة مال المفلس : " من وجد متاعه عند رجل أفلس فهو أحق به " .
فلو قلنا : بأن هذه الودائع التي يضعها العملاء عند المصارف إنها ودائع ، فإن العميل يكون أحق بهذا المال – عند إفلاس المصرف – بحكم النَّبيّ r ، ما دام أنه وجد متاعه بعينه فإنه أحق به .
أما إذا قلنا : بأنه قرض فإنه يكون دائناً عادياً ويخضع للقسمة على سائر الغرماء .
يعني : لو اقترض هذا المصرف من أُناس ، وأُناس آخرون أودعوا ، لو قلنا بأن هذه ودائع لكان أصحاب هذه الودائع أحق بأموالهم لأنها أموال لهم ، فلا يدخلون تحت أسوة الغرماء ، فتكون أمانة عند المصرف فقط .
لكن الآن لو أفلس المصرف فإن أصحاب هذه الودائع وكذلك الغرماء يدخلون جميعاً في المحاصة ، كل هؤلاء يقتسمون المال الذي يوجد بالمصرف ولا نفرز أموال المودعين باعتبار أنها أمانات ، وإنما نعاملهم كلهم على أنهم مقرضون .
مثال آخر : زيد من الناس أعطاه عمرو ألف ريال وأعطاه بكر وصالح وإبراهيم ومحمد قروضاً ؛ عندما يُفلس ويريد القاضي أن يقسم أموال هذا المفلس على الغرماء فإن أصحاب الأمانات لا تدخل أموالهم في القسمة ؛ يجب أن تفرز ؛ هذه ألف ريال معروفة لفلان ويأخذها ، أما بالنسبة للمقرضين فإنهم يتحاصون المال .
في المصرف ليس كذلك ، الكل يأخذون المال بالمحاصة ولا يفرز أحدهم عن أحد ، فدلَّ ذلك على أن هذه الأموال التي تدفع للمصرف أنها ليست ودائع وإنما هي قروض ، كما لو أن شخصاً أقرض هذا المصرف بدليل أنهم كلهم يدخلون في المحاصة ويخضع هذا الذي أودع لقسمة الغرماء .
ب- أن هذه ودائع كاسمها ، وهذا ذهب إليه بعض الباحثين .
التعليل : لأنها مبالغ توضع عند المصرف وتُسحب عند الحاجة ، هذه هي الوديعة .
الترجيح : والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وأن هذه الودائع التي تودع في المصارف إنما هي إقراض وليست ودائع .
وكون الشخص يسحبها عند الحاجة فنقول : هذا قرض غير مشروط بأجل فله أن يطالبه في أي وقت .
واستمرت هذه الودائع بهذا الاسم وإن كانت في الحقيقة على القول الراجح قروضاً بناء على الاسم الأول وأن الناس تعارفوا على هذا الاسم .
حكمها : والمراد حكم الإيداع في المصارف التي تتعامل بالربا .
لا شك أن وضع النقود فيها من باب التعاون على الإثم والعدوان ، والله عزَّ وجل يقول : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )[1].
ولما ظهرت مثل هذه المصارف اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله على أقوال ، ومن أشهرها ثلاثة أقوال :
1- التفصيل : وهو أن المصرف لا يخلو من أمرين :
أ- أن تكون جميع معاملات المصرف محرمة ، فهذا لا يجوز وضع النقود فيه لما في ذلك من الإعانة على الربا والله عزَّ وجل يقول : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) .
ب- أن يكون لهذا المصرف موارد أخرى مالية مشروعة غير ربوية فهذا يجوز وضع النقود فيه ما دام أن معاملاته ليست ربوية محضة ولأن الإنسان إذا أودع في مثل هذه المصارف لا يتحقق أن ماله صار في المعاملات الربوية ؛ وإذا لم يتحقق أن ماله صار في المعاملات الربوية فالأصل في ذلك الحل ، والبُعد عن هذا أولى ولكن ليس بواجب .
2- التفصيل بين الحاجة وعدم الحاجة ، فإذا كان هناك حاجة أو ضرورة فلا بأس ، وإذا لم يكن هناك حاجة أو ضرورة فإنه لا يجوز .
الحاجة مثل ألا يتمكن من حفظ ماله إلا في هذه المصارف أو يخشى على دراهمه الضياع أو تكون أموال كثيرة بحيث إنه لا يتمكن من حفظها في مكان آخر .
3- التفصيل : فإن أمكن وضع هذه الأموال في المصرف الذي يستعملها في المعاملات المالية المشروعة فهذا هو الواجب ، وإذا لم يمكن واحتاج إلى وضعها في هذا المصرف الربوي فهذا لا بأس به .
الاختيار : ويظهر أنه ما دام أن الناس رُبطوا بهذه المصارف ؛ يظهر أن الحاجة الآن عمَّت فلا تكاد تجد أحداً يبيع أو يشتري إلا عن طريق هذه المصارف لحاجته إلى التوثقة لأن كثيراً من المعاملات رُبطت بها ، لكن إذا كان الإنسان يستغني ولا يحتاج إليها فهذا هو الأبرأ .
فالرأي الثالث فيما يظهر أنه أقرب الأقوال لما فيه من البُعد عن المحرم وخصوصاً الربا الذي هو من كبائر الذنوب .