محمد أنس الزرقا
أستاذ - مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبدالعزيز - جدة
المستخلص : إن السمسار والتاجر - على اختلافهما - يؤديان من حيث النتيجة وظيفة اقتصادية واحدة هي الوساطة لتخفيض تكاليف انتقال السلع من منتجيها أو حائزيها إلى طالبيها ، فالسمسرة تنشئ علاقة ثنائية مباشرة بين طرفي التبادل بمساعدة السمسار ، بخلاف التجارة التي تنشئ علاقة ثلاثية غير مباشرة التاجر أحد أطرافها .
وهذا يصدق على المصارف التي تقوم بالوساطة بين الوحدات الاقتصادية ذات الفائض المالي والأخرى ذات العجز بأسلوب "المتاجرة" بالموارد المالية .
إن الوساطة المصرفية غير المباشرة (الثلاثية) تلبي اليوم بلغة الفقهاء "حاجة عامة" معاشية، هي أشد أهمية اقتصادية من الحاجة إلى الوساطة التجارية في أي نوع من السلع . والتحديات التي يواجهها تنظيم الوساطة المصرفية على أسس لاربوية لا تبرر العودة إلى السمسرة المالية (بين مدخر معين ومستثمر معين) التي لا يمكن بحال أن تغني عن الوساطة المذكورة .
أولاً : الوساطة والسمسرة بين الفقه والاقتصاد
الوسيط في المعاملات بين الناس هو الذي يسهل التعاقد بين الطرفين وإن لم يكن طرفًا في العقد . وأجلى صوره : السمسار .
وفي السنة النبوية ورد السمسار غير مرة ، وفسروه بأنه (القائم على بيع سلعة الغير بمقابل). وهذا أيضًا تعريف السمسار في القواميس (مثلاً : وبستر راندم هاوس : السمسار BROKER هو وكيل يبيع ويشتري للأصيل لقاء عمولة . وفي المعجم الوسيط : سَمْسرَ : توسط بين البائع والمشتري بجُعْل ) . وفسر سيدنا ابن عباس النهي النبوي عن أن يبيع حاضرٌ لبادٍ بقوله : لا يكون له سمسارًا (أخرجه البخاري في البيوع ، وأبو داود وأصحاب السنن) .
فالمعنى الفقهي والقانوني للسمسرة يشمل من يبيع سلعة الغير بعمولة ، ومن يسهل عقد الصفقة بين طرفيها كسماسرة العقارات اليوم . والسمسار هو فقهًا "أجير عام" غالبًا ، و" أجير خاص" أحيانًا .
والتاجر على هذا المعنى الفقهي والقانوني ليس سمسارًا وسيطًا بين المنتج والمستهلك ، لأن التاجر - بخلاف السمسار - يشتري لحساب نفسه ليبيع كذلك . كما أنه ليس أجيرًا عامًا ، ولا أجيرًا خاصا .
وما سبق من معان للوساطة هي كلها متعارفة في الفقه والقانون ، وهدفها تسليط الضوء على العلاقة التعاقدية والحقوق والواجبات بين الأطراف المتعاقدة . فالسمسار وكيل لرب السلعة وأمين عليها (أحيانًا) ، ولا يستحق أجرته/ جُعْله إلا إذا تمت الصفقة . أما التاجر فيشتري السلعة من ربها وتدخل في ضمانه ، فيده عليها لا تكون يد أمانة بل يد ضمان ، فيتحمل هلاك السلعة وتعيبها وتقلب سعرها . ويعقد التاجر مع المشتري النهائي صفقة مستقلة لا شأن فيها لرب السلعة الأصلي.
هنا يدخل الاقتصاديون الموضوع بهدف آخر هو تسليط الضوء على الوظيفة الاقتصادية للوساطة في المجتمع ، وهي عمومًا تسهيل ( أي تخفيض تكاليف )عقد الصفقات بين الطالبين لسلعة أو منفعة ، وبين الراغبين في تقديمها (لأنهم منتجون لها أو مجرد حائزين لم ينتجوها) .
في منظور الاقتصاديين وعرفهم : السمسار وسيط كما التاجر وكما المصرف ، لأن مآل نشاطهم في المجتمع واحد وهو تسهيل (تخفيض تكاليف) انتقال السلع والمنافع من منتجيها الأصليين إلى مستخدميها النهائيين ، تسهيلاً مباشرًا ثنائيًّا في حالة السمسرة حيث يتم عقد الصفقة بين البائع والمشتري مباشرة بمساعدة السمسار ، أو تسهيلاً غير مباشر ثلاثي الأطراف في حالة التجارة ، حيث يعقد التاجر صفقة مع البائع الأصلي تنتقل بها السلعة إلى ملك التاجر ، ثم صفقة أخرى مستقلة مع المشتري النهائي .
إن هذا القاسم المشترك بين السمسرة والتجارة أمر ظاهر عقليًّا ، ومع ذلك فإن له شاهدًا شرعيًّا هو ما رواه أصحاب السنن عن أبي غَرَزَة t حيث قال : كنا نسمى السماسرة فسمانا رسول الله r باسم هو خير من اسمنا فقال : "يا معشر التجار..." ( رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة) .
وهذا القاسم المشترك يقودنا إلى تسليط الضوء على وجوه التشابه بين السمسرة والتجارة والوساطة المصرفية في الفقرة (ثانيًا) التالية .
نتيجة : يختلف التعريف الفقهي والقانوني للوساطة عن تعريفها الاقتصادي لاختلاف الهدف من دراستها . لكن وجهتي النظر متكاملتان لا متناقضتان . وإذا أردنا تحديد حاجة المجتمع لوساطة معينة فلا مفر من الانتباه لوظيفتها الاقتصادية .
ثانيًا : بين الوساطة المالية والتجارة
ما الوفق والفرق بين وساطة سمسار تأجير العقارات ووساطة مصرف تقليدي يعمل بالفائدة؟ السمسار يتاجر بالمعلومات لا بمنافع العقارات نفسها . فهو يجمع المعلومات عن عقارات معدة للتأجير وعن راغبين في الاستئجار ،لا ليستعمل هذه المعلومات لنفسه بل ليبيعها لطرفي العقد فيدل هذا على هذا لقاء عمولة . وبعد عقد الصفقة يرتبط مالك عقار معين بمستأجر معين ويواجه كل منهما مزايا ومخاطر التعامل مع شخص الآخر .
ولو أن السمسار قام باستئجار عقارات عديدة من مالكيها لحساب نفسه ، مع التمسك بحقه في أن يؤجرها من الباطن لمن يشاء بما يشاء، لصار "تاجرا" في منافع العقارات أي "تاجر إيجارات". وهذه صورة ممكنة وإن لم تكن شائعة للوساطة العقارية. لكنها هي عين الصورة الشائعة للوساطة المالية المصرفية . فالمصرف "يستأجر" لحسابه نقود المودعين بأجرة زمنية هي الربا على الودائع ، ويؤجرها "من الباطن" إن صح التعبير للمتمولين (طالبي التمويل) بعقد مستقل وبأجرة أعلى هي الربا على القروض المصرفية .
ولو أن المصرف قدم خدمة وساطة شخصية (سمسرة) لمودع معين فبحث له عن متمول مناسب ، وسهل عقد القرض بينهما ، لكان "سمسار نقود" حقًا . وهذه صورة للوساطة المالية ممكنة من الوجهة الجزئية الحقوقية ، وإن لم تكن شائعة، إذ تؤدي إلى تمويل مباشر ، أي إلى قرض بين مدخر معين ومتمول معين . وقد فصل د. صديقي في ورقته لماذا لا يمكن للتمويل المباشر (ولو مع خدمات "سمسار نقود" ) أن يحقق بكفاءة بعض الوظائف الجوهرية التي توفرها الوساطة المصرفية بصورتها المعاصرة . كما ألمح د. القري في ورقته: (بند "مبررات التفريق بين الوسيط المالي والتاجر ، ص71) إلى شيء من ذلك .
المصرف التقليدي هو حقًا تاجر نقود وديون كما أكد د. المصري في ورقته ، أو بعبارة أدق تاجر في منافع النقود والديون .
ولما كان تداول النقود والديون شرعًا يخضع لأحكام تختلف عن أحكام تداول السلع والخدمات ، وتستهدف تحريم ربا الدين ، فإن أداء وظيفة الوساطة المصرفية على نحو شرعي يتطلب بدائل شرعية لبعض الأعمال المصرفية التقليدية ، وعلى الأخص للقرض الذي هو وسيلتها التقليدية الأساسية في أداء وظيفة الوساطة .
والبديلان الأساسيان للتمويل بالقرض المشروعان في الإسلام كما هو معلوم هما : المشاركات بأنواعها ( ومنها المضاربة) ، والمبايعات التي ينفصل فيها أحد العوضين زمنيا عن الآخر ( كما في البيع بثمن مؤجل وفي بيع السَلَم ) .
ثالثًا : هل نحتاج لوساطة مصرفية
إن علاقة الوسيط الإسلامي المصرفي بالمودعين على أساس المضاربة لم تواجه ، كما نعرف جميعًا ، مشكلات جوهرية من الجانب الفقهي أو الاقتصادي أو القانوني ، وإن كانت فيها شوائب تطبيقية سهلة التذليل .
أما علاقة المصرف الإسلامي بالمتمولين من رجال الأعمال على أساس المشاركات عمومًا والمبايعات خصوصًا فهي التي تواجه عقبات و مخالفات وتحديات . وقد تدفعنا هذه العقبات والمخالفات بل دفعت بعضنا فعلاً إلى السؤال عن مدى الحاجة الاجتماعية والمعاشية إلى الوساطة المصرفية أصلاً بين الوحدات الاقتصادية ذات الفائض والأخرى ذات العجز (انظر بحث د.المصري)، وما إذا كان يمكن العودة إلى مرحلة السمسرة النقدية (أو التمويل المباشر) التي لا تواجه نفس الإشكالات والمخالفات الفقهية التي تواجه الوساطة المصرفية .
جوابي باختصار : إن حاجة المجتمع المسلم المعاصر إلى " المتاجرة بالنقود" على أسس شرعية هي أشد من حاجته إلى الوساطة التجارية في أية سلعة أو زمرة من السلع ، إذ النقود تمثل سائر السلع والمنافع وتوصل إليها . والحاجة إلى الوساطة في النقود والمدخرات بصيغ مشروعة هي حاجة عامة وملحّة تنطبق عليها تمامًا القاعدة الفقهية (الحاجة العامة بمنزلة الضرورة الخاصة) .
فلا محيص عن الوساطة المصرفية اليوم ، وليس أمامنا إلا استمرار البحث عن صيغ شرعية تحققها على نحو ناجع و قليل التكلفة .
Tags:
Funding
full
exploring
horizons
side